hashtagseed.com
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: { فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} يَقُول تَعَالَى ذِكْرُهُ مُقْسِمًا لِخَلْقِهِ بِنَفْسِهِ: فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض, إِنَّ الَّذِي قُلْت لَكُمْ أَيّهَا النَّاس: إِنَّ فِي السَّمَاء رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ لَحَقّ, كَمَا حُقَّ أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَقَدْ: 24919 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار, قَالَ: ثنا ابْن أَبِي عَدِيّ, عَنْ عَوْف, عَنِ الْحَسَن, فِي قَوْله: { فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَاتَلَ اللَّه أَقْوَامًا أَقْسَمَ لَهُمْ رَبّهمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ " وَقَالَ الْفَرَّاء: لِلْجَمْعِ بَيْن " مَا " و " أَنَّ " فِي هَذَا الْمَوْضِع وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: أَنْ يَكُون ذَلِكَ نَظِير جَمْع الْعَرَب بَيْن الشَّيْئَيْنِ مِنَ الْأَسْمَاء وَالْأَدَوَات, كَقَوْلِ الشَّاعِر فِي الْأَسْمَاء: مِنَ النَّفَر اللَّائِي الَّذِينَ إِذَا هُمُ يُهَاب اللِّئَام حَلْقَةَ الْبَاب قَعْقَعُوا فَجَمَعَ بَيْن اللَّائِي وَالَّذِينَ, وَأَحَدهمَا مُجْزِئٌ مِنَ الْآخَر; وَكَقَوْلِ الْآخَر فِي الْأَدَوَات: مَا إِنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِهِ كَالْيَوْمِ طَالِي أَيْنُقٍ جُرْب فَجَمَعَ بَيْن " مَا " وَبَيْن " إِنْ ", وَهُمَا جَحْدَانِ يُجْزِئ أَحَدهمَا مِنَ الْآخَر.
وأما الآخر: فهو لو أن ذلك أفرد بما, لكان خبرا عن أنه حقّ لا كذب, وليس ذلك المعنيّ به. وإنما أُريد به: أنه لحقّ كما حقّ أن الآدميّ ناطق. ألا يرى أن قولك: أحق منطقك, معناه: أحقّ هو أم كذب, وأن قولك أحق أنك تنطق معناه للاستثبات لا لغيره, فأدخلت " أن " ليفرّق بها بين المعنيين, قال: فهذا أعجب الوجهين إليّ. واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ( مِثْلَ مَا) نصبا بمعنى: إنه لحقّ حقا يقينا كأنهم وجهوها إلى مذهب المصدر. وقد يجوز أن يكون نصبها من أجل أن العرب تنصبها إذا رفعت بها الاسم, فتقول: مثل من عبد الله, وعبد الله مثلك, وأنت مثلُه, ومثلَهُ رفعا ونصبا. وقد يجوز أن يكون نصبها على مذهب المصدر, إنه لحقّ كنطقكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة, وبعض أهل البصرة رفعا " مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ " على وحه النعت للحقّ. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. ----------------------- الهوامش: (5) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 311) على أن العرب قد تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما ، مثل اللائي والذين ، فإنهما بمعنى واحد ، وأحدهما يجزئ عن الآخر ، كما في قوله تعالى " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " فقد جمع بين " ما " و " أن ".
انتهى.
وقد نقل المؤلف بقية كلام الفراء في توجيه ذلك الجمع بين اللفظين. واستشهد به النحويون على مثل ما استشهد به الفراء. وانظر تفصيل الكلام على البيت في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ( 2: 529 - 534) وقد نسب البيت لأبي الربيس الثعلبي. وروايته كما في شعره ( في الخزانة 532): مـن النفـر البيـض الـذين إذا انتموا وهـاب الرجـال حلقـة الباب فعقعوا يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهو صاحب الناقة التي سرقها أبو الربيس ومدح صاحبها وروى الجاحظ في البيان والتبيين أن الأبيات التي منها بيت الشاهد قالها شاعر يمدح بها أسيلم بن الأحنف الأسدي ، قال: وكان ذا بيان وأدب وعقل وجاه ، وهو الذي يقول فيه الشاعر... الأبيات. وقال الزبير بن بكار في أنساب قريش: إن أبا الربيس عباد بن طهفة الثعلبي قال لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان... الأبيات وفيها البيت: مـن النفـر الشـم الـذين إذا ابتـدوا وهـاب اللئـام حلقـة البـاب قعقعـوا (6) هذا البيت من كلام دريد بن الصمة فارس جشم ، وكان جاء إلى عمرو بن الشريد السلمي يخطب إليه ابنته الخنساء ، وكانت تهنأ بالقطران إبلا لأبيها ، فلما رآها قال أبياتًا يصفها ، ومنها: أخُنــاس قَــدْ هــامَ الفُـؤَاد بكُـمْ وأصَابَـــهُ تَبْــلٌ مِــنَ الْحــبّ فلما أخبرها أبوها بما جاء له فارس جشم ، رغبت عنه ، لكبر سنه ، ورغبت في بني أعمامها.
قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون. [ ص: 440] اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء ، فذهبت جماعة من أهل العلم أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء ، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر لهذا المعنى ، كقوله تعالى: هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13]. وقوله تعالى: واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق [ 45 \ 5]. وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن. وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده ، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا ، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق. وقال بعض أهل العلم: معنى قوله: وفي السماء رزقكم أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة ، والله - جل وعلا - يدبر أمر الأرض من السماء ، كما قال تعالى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه الآية [ 32 \ 5] ، وقوله تعالى: وما توعدون " ما " في محل رفع ، عطف على قوله: رزقكم ، والمراد بما يوعدون ، قال بعض أهل العلم: الجنة ، لأن الجنة فوق السماوات ، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح ، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل: وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور ، قال فيه: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له - صلى الله عليه وسلم: " إلى أين يا أبا ليلى.
وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْكُوفَة, وَبَعْض أَهْل الْبَصْرَة رَفْعًا " مِثْل مَا أَنَّكُمْ " عَلَى وَجْه النَّعْت لِلْحَقِّ. وَالصَّوَاب مِنَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَة الْأَمْصَار, مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى, فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئ فَمُصِيبٌ. '